قصّة البيعة في سقيفة بني ساعدة بين الصحيح والضعيف

في الفترة التي انشغل فيها علي والعباس والفضل رضي الله عنهم بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع بعض الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وسأذكر هذه الرواية من «تاريخ الإمام الطبري» أولا من رواية أبي مخنف الكذاب، ثم أذكرها من رواية الإمام البخاري، ثم نقارن بين الروايتين حتى نعرف الزيادات التي زادها أبو مخنف.
ولعل كثيرا من هذه الزيادات الآن أمور مسلمة، ومثل هذا سيأتينا أيضا في حادثتي الشورى والتحكيم.
قال الإمام الطبري رحمه الله: حدثنا هشام بن محمد، عن أبي مخنف قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد عليه الصلاة والسلام سعد بن عبادة، قام أحدهم فقال: قد دانت لكم العرب بأسيافكم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس. فأجابه الجميع: أن قد وفقت في الرأي. فقال قائل منهم: فإن أبت مهاجرة قريش؛ نقول: منكم أمير ومنا أمير. فقال سعد بن عبادة: هذا أول الوهن. ثم بلغ عمر بن الخطاب أن بعض الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يقولون: منا أمير ومنكم أمير فذهب إلى أبي بكر فأخبره فقال: إن إخواننا الأنصار اجتمعوا ويقولون كذا، فهلم بنا إليهم.
فخرج عمر وأبو بكر فوجدا أبا عبيدة فقالا: معنا. فذهب الثلاثة إلى الأنصار. يقول عمر: فزورت كلاما في نفسي، فلما أردت أن أتكلم، أشار إلي أبو بكر: أن اسكت.
فبدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: إن الله بعث محمدا… وذكر خطبة طويلة لأبي بكر، وذكر منها أن المهاجرين أولى بالخلافة.
فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في فيئكم، وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولوا العدد والمنعة، فإن هم أبوا عليكم ما سألتموه، فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.
فقال عمر وأبو عبيدة لأبي بكر: ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، قال: فقام أسيد بن حضير -وكان أحد النقباء- فقال: « والله لئن وليتها عليكم الخزرج مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة؛.
فقال سعد: « أما والله! لو أن بي قوة ما أقوى على النهوض، لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيرا يجرحك وأصحابك، أما والله! إذن لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع، احملوني من هذا المكان » فحملوه فأدخلوه في داره، فترك رضي الله عنه أياما ثم قال: « أما والله! حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي ». فكان سعد بعد ذلك لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم، ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله تعالى.
هذه رواية أبي مخنف لقصة السقيفة، ونورد الآن رواية الإمام البخاري لهذه القصة نفسها ونقارن.

قال الإمام البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات… واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر.
وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء.
فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارا، وأعربهم أحسابا، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة. فقال عمر: بل نبايعك أنت؛ فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس. فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة. فقال عمر: قتله الله.
هذه رواية الإمام البخاري، وهي كما نرى مختصرة وقصيرة، وهذه حقيقة السقيفة. أما ما زاده أبو مخنف من ( أن سعد بن عبادة قال أقاتلكم، وكان لا يصلي معهم، ولا يجمع بجمعتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، وأن الحباب بن المنذر رد على أبي بكر) وغير ذلك من زيادات؛ فكل ذلك أباطيل لا تثبت.
فقصة السقيفة لم تستغرق نصف الساعة في ظاهرها، وانظر كيف أصبحت الرواية أكبر مما هي عليه.