نقد دعوى التشكيك في قضاء عمر رضي الله عنه في شبهة حدّ من وصفت بالجنون (2)
نقد دعوى التشكيك في قضاء عمر رضي الله عنه في شبهة حدّ من وصفت بالجنون.
ومما أثاره الطاعن في الصحابة – رضي الله عنهم – :
“وأمر عمر بن الخطاب برجم مجنونة، فقال له علي رضي الله عنه: إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، فأمسك، وقال: لولا علي لهلك عمر.”
والجواب:
هذه الزيادة في القصة ليست معروفة في الحديث الصحيح المشهور. وعلى فرض صحة أصل القصة، فإنها لا تدل على القدح في عمر رضي الله عنه، ولها وجوه في التفسير:
أنه لم يكن يعلم بجنونها، فإخباره بذلك لا يقدح في علمه بالأحكام، إذ الأمر يتعلق بواقع الحال لا بحكم شرعي عام.
أنه كان ذاهلاً عن الحكم فذكّره علي رضي الله عنه به، فرجع فوراً، وهذا من كمال الورع والإنصاف.
أن يظن المجتهد أن العقوبات شرعت لدفع الضرر في الدنيا، والمجنون قد يعاقب في بعض الحالات لدفع عدوانه، كالذي يزني أو يعتدي، حتى يتبين أن هذا من حدود الله التي لا تُقام إلا على المكلّفين.
والمجنون قد يعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين، والزنا هو من العدوان، فيعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله – تعالى – التي لا تقام إلا على المكلف.
وقد جاءت الشريعة جاءت بجواز معاقبة غير المكلّف تعزيراً في بعض الحالات، كضرب الصبيان على ترك الصلاة عند سن العاشرة، ودفع صيال المجنون أو البهيمة إذا لم يندفع إلا بالقتل، وهذا محل اتفاق بين جمهور العلماء. أما العقوبات الحدّية كالقتل والقطع فلا تقام على غير المكلف، وهذا عُلم بالشرع وليس من الأمور الظاهرة التي يذم من جهلها.
كما أن كثيراً من المجانين يكون لهم فترات إفاقة، ولعل عمر رضي الله عنه ظن أن المرأة زنت في حال إفاقتها. ولفظ “المجنون” يشمل من به جنون مطبق دائم، ومن به جنون متقطع.
وإذا كان علي رضي الله عنه قد اجتهد في قتال من لم يعتقدوا وجوب طاعته في وقائع الجمل وصفين، فكان اجتهاده مغفوراً رغم أن القتال أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين، فمن باب أولى أن يكون اجتهاد عمر في قضية واحدة – مع أنه لم ينفذ القتل – اجتهاداً مغفوراً.
زالمطاعن التي يثيرها البعض في عمر رضي الله عنه ترجع إلى دعوى نقص علمه أو دينه، وكلاهما باطل. فقد شهد له الصحابة والتابعون والأئمة بعدله وعلمه، حتى صار مثلاً يُضرب في الإنصاف والحزم، ورضيت سيرته الخاصة والعامة الخوارج والشيعة الأُول، وكان علماء الأمة من بعدهم خاضعين لعلمه وعدله.
الهوامش:
حديث “رفع القلم عن ثلاثة” رواه أبو داود (4403) والترمذي (1423) والنسائي (3432) وابن ماجه (2041)، وصححه الألباني.
حديث الأمر بالصلاة وضرب الصبيان عليها: رواه أبو داود (495) وأحمد (6650) وهو حديث حسن.
ابن قدامة، المغني، باب شروط إقامة الحد.
النووي، شرح صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب إقامة الحد على المكلّف.
ابن القيم، إعلام الموقعين، فصل في أحكام غير المكلّفين.