كلام عمر رضي الله عنه عند الاحتضار: بين الخوف من الله وحسن الختام
كلام عمر رضي الله عنه عند الاحتضار: بين الخوف من الله وحسن الختام
يروي بعض الرافضة ما زعموه دليلاً على جهل أو ضعف إيمان الصحابة، مستشهدين بكلام يُنسب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته، حيث قال:
“يا ليتني كنت كبشًا لقومي فسمنوني ما بدا لهم، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني، فجعلوا نصفي شواء ونصفي قديدًا، فأكلوني، فأكون عذرة ولا أكون بشرًا”.
ثم يعلّقون: “وهل هذا إلا مساوق لقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]؟”
ويضيفون ما نُقل عن ابن عباس عند وفاته:
“لو أن لي ملء الأرض ذهبًا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع”،
ويستشهدون بالآية: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} [الزمر: 47].
وفي المقابل، يقولون إن عليًا رضي الله عنه قال عند احتضاره:
“متى ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه؟”
وقال عند مقتله:
“فزت ورب الكعبة”.
الرد العلمي على هذه المزاعم
أولًا، لا يُفهم من قول عمر إلا الخوف من الله، وهو من صفات العارفين به، كما قال تعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وهذا هو دأب كبار الصالحين، فقد كان النبي ﷺ يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وقال حين قُرئ عليه قول الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا…} [النساء: 41]:
“حسبك”، فإذا بعينيه تذرفان.
وقد قال النبي ﷺ:
“إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط… والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا… وددت أني كنت شجرة تُعضد”.
[رواه الترمذي وأبو ذر].
فإذا كان هذا حال النبي ﷺ، فكيف يُستنكر على عمر أن يتمنى أنه لم يُخلق، خشية من مقام الله وحسابه؟
ثم إن قوله: “ياليتني كنت كبشًا…” قيل في الدنيا، وهي دار العمل، فثوابه على هذا الخوف ثابت، لا مذمة فيه، وليس كما قال الكافر يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40]، في وقت لا تُقبل فيه التوبة.
وقد قالت مريم عليها السلام: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنسِيًّا} [مريم: 23]، ولم يكن هذا تمنيًا كافريًا، بل تعبيرًا عن شدة الخوف والحياء من الله.
شهادة الصحابة بفضل عمر رضي الله عنه
في صحيح البخاري، لما طُعن عمر، جاء إليه ابن عباس يواسيه فقال:
“لقد صحبت رسول الله ﷺ فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون”.
فقال عمر:
“أما ما ذكرت من رسول الله ﷺ وأبي بكر، فذاك منٌّ من الله علي، وأما جزعي فهو من أجلكم، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه”.
ثم لما طُعن، سأل من قتله، فقيل: “غلام المغيرة”، قال:
“قاتله الله، لقد أمرته معروفًا. الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد مسلم”.
وهذا يدل على عظيم حرصه على سلامة دينه حتى عند موته.
بل لما أراد الدفن بجانب النبي ﷺ وأبي بكر، قال لابنه عبد الله:
“اذهب إلى عائشة، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين بأمير”.
فأذنت عائشة، وقالت: “كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم”.
الخوف من الله لا ينقص من المقام
إن ما يُنقل من خوف عمر أو بكائه أو تمني الفداء، لا يقدح في مقامه، بل يدل على كمال معرفته بالله. فقد قال النبي ﷺ:
“خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم… وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم” [رواه مسلم].
ولم يُقتل عمر على يد مسلم، بل على يد كافر مجوسي حاقد. وهذا يرفع قدره لا ينقصه.
ومن أوجه الرد أيضًا أن قول “فزت ورب الكعبة” ليس مقصورًا على علي رضي الله عنه، فقد قالها عامر بن فهيرة مولى أبي بكر حين استُشهد، وقال شبيب الخارجي عند طعن نفسه: “وعجلت إليك ربي لترضى”، بل كثير من الصالحين عند موتهم يُكرمهم الله بنُطق كلمات تدل على حسن الخاتمة.
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من أعظم الصحابة منزلة، وقد ملأ الأرض عدلًا، وكان مثالًا في الخوف من الله مع حسن العمل، وخوفه لا يقدح فيه بل يرفعه، كما قال بعض السلف:
“من خاف الله في الدنيا، أمنه الله يوم القيامة”.
فليس العجب من بكاء عمر، بل العجب ممن لا يبكي، ولا يخاف، ثم يتطاول على أمثال عمر رضي الله عنه.