مقاومة المحدّثين لمرويات الكذّابين في الحديث والتاريخ

مقاومة المحدّثين لمرويات الكذّابين في الحديث والتاريخ

جاء في صحيح مسلم أن محمد بن سيرين قال: «إن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم، وفيه عن سليمان بن موسى قال: «لقيت طاوسا فقلت: حدثني فلان كيت وكيت, قال: إن كان صاحبك مليا فخذ عنه.

قال النووي: قوله: إن كان مليا: يعني ثقة ضابطا متقنا, يوثق بدينه ومعرفته, ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملي بالمال ثقة بذمته.

وبمثل هذا وصى الأئمة طلاب علمهم, فقد أخرج الخطيب بسنده عن معن بن عيسى, قال: كان مالك بن أنس ت: 179هـ يقول: لا يؤخذ العلم من أربعة, ويؤخذ ممن سوى ذلك، لا يؤخذ من سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس, ولا يؤخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه, وإذا كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله, ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه, ولا من شيخ له فضل وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث.

إن القرن الأول الهجري يعد بداية التكوين الرسمي لقواعد المحدثين, وبعده وخلال القرن الثاني الهجري مرت القواعد بعدة أدوار اكتملت من خلالها سائر مباحثها وأنواعها. كل هذا، وهذه القواعد معروفة بين العلماء مشتهرة بينهم تجري على ألسنتهم ألفاظ الجرح والتعديل والحكم على الرجال وعلى الأحاديث.

وبعد ذلك بدأ تدوين هذه القواعد في مؤلفات خلال القرن الثالث الهجري, الذي يعد بحق العصر الذهبي لتدوين السنة وعلومها, حتى شمل التدوين سائر فروعها, وبرزت الاصطلاحات الحديثية التي تداولها العلماء.
فلما كان منتصف القرن الرابع الهجري وما بعده ظهرت الكتب الخاصة, والتي تعد من أمهاتها, ولا تزال المرجع الذي لا غنى عنه لمبتغي هذا العلم, والتي منها:
· المحدث الفاصل بين الراوي والواعي, وهو لأبي محمد الحسيب بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي ت: 360هـ.

· معرفة علوم الحديث، وهو لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ت: 405هـ, وقد بحث في اثنتين وخمسين قاعدة من قواعد علوم الحديث.

· الكفاية في معرفة أصول علوم الرواية, والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع, وهما للخطيب البغدادي ت: 463هـ.

· الإلماع في أصول الرواية والسماع للقاضي عياض ت: 544هـ.

· علوم الحديث, لابن الصلاح ت: 643هـ.

وهكذا قعدت القواعد في مسائل النقل، وعلل الحديث، والجرح والتعديل، والتوثيق والتضعيف, وتقييم أحوال الرواة في الأسانيد ضبطا وعدلا, واتصالا وانقطاعا, وقبولا وردا حتى انكشف الصبح لذي عينين, وتميز صحيح الأحاديث من سقيمها, وأصيلها من منحولها, بفضل الله – عز وجل – ثم بفضل همة المخلصين من علماء الأمة وصلحاء البرية؛ إذ تصدى فريق من حفاظهم للتأليف، والإبانة عن الثقات من الرواة, واقتصر المؤلفون في كتبهم على العدول من أهل الثقة والأمانة والتثبت والحفظ والإتقان، ومن متقدمي هذا الفريق: الإمام أبو الحسن أحمد بن عبدالله العجلي ت: 261هـ، وأبو حاتم بن حبان البستي ت: 385هـ.

وتصدى فريق ثان للتأليف والإبانة عن الضعفاء من الرواة, تحذيرا للأمة منهم, وتنبيها للباحثين من التعويل على نقلهم, واقتصر المؤلفون في كتبهم على ذكر أسماء وأحوال المجروحين من أهل الغفلة، والكذب، ووضع الأحاديث زورا على النبي – صلى الله عليه وسلم – ومن هذا الفريق الأئمة الحفاظ من أمثال البخاري ت: 256هـ, والنسائي ت: 303هـ, ومحمد بن عمرو العقيلي ت: 322هـ, والدارقطني ت: 385هـ، وهم من علماء القرن الثالث والرابع الهجريين.

ومن هذه الكتب كذلك, كتاب الضعفاء لابن المديني ت: 234هـ, وهو شيخ البخاري، وكتاب الضعفاء لابن البرقي ت: 249هـ، وكتاب الضعفاء للبخاري ت: 256هـ، وكتاب الضعفاء للجوزجاني السعدي ت: 259هـ، وكتاب الضعفاء والمتروكين للبردعي ت: 292هـ، والضعفاء لابن الجارود ت: 299هـ، والضعفاء والمتروكين للنسائي ت: 303هـ، والضعفاء للساجي ت: 307هـ, والضعفاء للعقيلي ت: 322هـ، والضعفاء للجرجاني ت: 323هـ، والضعفاء والمتروكين للدارقطني ت: 385هـ.

وكثير غير هذه الكتب مما ألف في القرون المتقدمة على القرن الثامن الهجري بقرون, والتي تدل على وعي تام من العلماء بقواعد وضوابط الحكم على الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف والموضوع.

كما أولى أئمة النقد وعلماؤه التصنيف في الكذابين والضعفاء أهمية كبيرة, اعتنوا أيضا بتأليف الكتب في الأحاديث الموضوعة, ومن هذه الكتب: موضوعات النقاشت: 414هـ، الأباطيل للجوزقاني ت: 543هـ.

ومن المعروف في تاريخ علم الحديث أن حركة جمع الحديث ونقده وتمييز صحيحه من ضعيفه, والبحث في أحوال الرجال والحكم لهم أو عليهم – قد بدأت في القرن الثالث الهجري, ففي هذا العصر ألفت كتب الحديث, فظهر صحيح البخاري ت: 256هـ، وصحيح مسلم ت: 261هـ, وسنن ابن ماجه ت: 237هـ، وسنن أبي داود ت: 275هـ وجامع الترمذي ت: 279هـ، وسنن النسائي ت: 303هـ