قيام الصحابة وآل البيت في رمضان: اجتهاد في العبادة وطلبٌ لليلة القدر

كان الصحابة وآل بيت النبي ﷺ يدركون عظمة شهر رمضان، ويحرصون على استثماره في القربات والطاعات، وكان من أعظم العبادات التي التزموا بها قيام الليل. لقد كانوا يرون في هذا القيام وسيلةً للتقرب إلى الله، وفرصةً لتحصيل الأجر، وإدراك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. إن هذا الاجتهاد ينبع من حبهم لله، وشوقهم إلى رحمته، وحرصهم على السير في طريق النبي ﷺ الذي كان يوقظ أهله ويشد مئزره في العشر الأواخر من رمضان، طلبًا للخير.

قيام الصحابة في رمضان
كان الصحابة رضي الله عنهم يعيشون أجواء رمضان بروحانية عالية، وكانوا يحرصون على قيام الليل، ويجدون فيه لذةً للقلب وطمأنينةً للنفس. وقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يجمع المسلمين في رمضان على إمام واحد لصلاة التراويح، وقال: “نعمت البدعة هذه” (صحيح البخاري، حديث رقم 2010، ج2، ص707). وكان الصحابة يصلون الليل طويلاً حتى يعتمدون على العصي من شدة الوقوف.
أما عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد عُرف بطول قيامه في رمضان، وكان يختم القرآن في ليلة واحدة، مما يعكس مدى تعمقه في حب القرآن وعشقه للقيام. وورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “من قام عشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين” (سنن أبي داود، حديث رقم 1398، ج2، ص35).

حرص آل البيت على قيام الليل
لم يكن قيام الليل خاصًا بالصحابة فقط، بل كان آل البيت من أكثر الناس حرصًا عليه، فهم أقرب الناس إلى النبي ﷺ، وكانوا يتشربون من معين هديه. وقد ورد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان إذا دخلت العشر الأواخر يوقظ أهله، كما كان يفعل النبي ﷺ، وكان يقول: “ألا توقظون للصلاة؟” حرصًا منه على اغتنام الليالي المباركة.
أما فاطمة الزهراء رضي الله عنها، فكانت تقوم الليل وتحث أبنائها الحسن والحسين رضي الله عنهما على الاجتهاد في العبادة، وتذكّرهم بما أعده الله للصائمين القائمين. وقد روي أنها قالت: “ما كان شيء أحبّ إلى أبي من أن يرانا نصلي”، وهذا يدل على أن النبي ﷺ غرس حب القيام في أهل بيته منذ الصغر.

تحري ليلة القدر
كان الصحابة وآل البيت لا يدعون رمضان يمر دون تحري ليلة القدر، وكانوا يتسابقون في الاجتهاد خلالها، ويكثرون من الدعاء والبكاء بين يدي الله. وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ عن الدعاء في ليلة القدر، فأرشدها إلى قول: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني” (سنن الترمذي، حديث رقم 3513، ج5، ص534). وكانوا يعتكفون في العشر الأواخر، يبكون ويضرعون إلى الله أن يتقبل صيامهم وقيامهم.

إن قراءة سِيَر الصحابة وآل البيت في رمضان تجعلنا نشعر بقصورنا في العبادة، وتجعلنا نعيد النظر في طريقة استقبالنا لهذا الشهر العظيم. فقد كانوا يتركون متاع الدنيا خلف ظهورهم، ويجعلون من رمضان موسمًا للعبادة الخالصة، وينتظرون ليلة القدر بقلوبٍ ممتلئة بالإيمان والرجاء. فجديرٌ بنا أن نقتدي بهم، ونسير على دربهم، عسى أن ندرك نفحات هذا الشهر المبارك.

المصادر
1. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار طوق النجاة، ج2، ص707.
2. سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الكتب العلمية، ج2، ص35.
3. سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، دار إحياء التراث العربي، ج5، ص534.
4. موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس، دار الكتب العلمية، ج1، ص115.