تفسير ما رواه الصحابة رضي الله عنهم من اختصاص جزاء الصوم بالله سبحانه

تفسير ما رواه الصحابة رضي الله عنهم في اختصاص جزاء الصوم بالله سبحانه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فمما رواه الصحابة رضي الله عنهم في اختصاص جزاء الصوم بالله سبحانه وتعالى ما رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم”
وقد شرح الحافظ ابن رجب رحمه الله الفوائد من هذا الحديث وفسره بقوله:
وأما قوله: “فإنه لي” فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم وذكروا فيه وجوها كثيرة ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان:
أحدهما: أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب وكذلك الإعتكاف مع أنه تابع للصيام وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي ونفسه تشوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة.
وذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوع وكان ابن الزبير يفعله في صلاته وهو رواية عن الإمام أحمد وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات وتشوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله ولهذا روي: “أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف” وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قاله أبو الدرداء: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في سفر وأحدنا يضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.
وفي الموطأ: إنه صلى الله عليه وسلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر.
فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه فشكر الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله ولهذا قال بعد ذلك: “إنه إنما ترك شهواته وطعامه وشرابه من أجلي” قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه باطلاع الله وثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره فتصير لذته فيما يرضى مولاه وإن كان مخالفا لهواه ويكون ألمه فيما يكره مولاه وإن كان موافقا لهواه وإذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق: كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق وسفك الدماء المحرمة فإن هذا يسخطه الله على كل حال وفي كل زمان ومكان فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار.
وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] سئل ذو النون المصري متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر وقال غيره: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك وكثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر ومن جهالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة وقد اعتاد مع ذلك.
الوجه الثاني: إن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء كذا قاله الإمام أحمد وغيره وفيه حديث مرفوع مرسل وهذا الوجه اختيار أبي عبيد وغيره وقد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه دل على صحة إيمانه والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة وقال بعضهم: لما اطلع على بعض سرائره إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات.
المحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه.
ينظر: لطائف المعارف لابن رجب (ص: 152)