المرويات الحديثية للسيدة عائشة رضي الله عنها – أكثر أمهات المؤمنين رواية للحديث

تُعد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من أبرز نساء الأمة علمًا وروايةً، ومن أكثر الصحابة حفظًا للحديث النبوي الشريف وفهمًا لمعانيه. فقد تربّت في بيت الصديق، وعايشت رسول الله ﷺ عن قربٍ علمًا وخلقًا وسلوكًا، حتى أصبحت من أوثق رواة السنّة، ومن المراجع الكبار في الفقه والحديث والتفسير.

لقد أجمع المحدّثون على أن السيدة عائشة كانت من أكثر الصحابة روايةً للحديث، إذ بلغ مجموع ما روت من الأحاديث عن رسول الله ﷺ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210)، وهو عدد يفوق ما رواه كثير من كبار الصحابة من الرجال. وقد اتفق الشيخان البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثًا من مروياتها، وانفرد البخاري بـ أربعة وخمسين حديثًا، ومسلم بـ تسعة أحاديث مستقلة[1].
كما أورد الإمام أحمد في مسنده أكثر من ألفي حديث لها، مما يدل على وفرة روايتها وسعة علمها[2].

كانت عائشة رضي الله عنها تمتاز بدقّة النقل والتحقيق في الرواية، فلم تكن تروي إلا ما وعته حفظًا وفهمًا، حتى قال عنها الإمام الزهري: «لو جمع علم نساء هذه الأمة فيهن عائشة لكان علم عائشة أفضل»[3]. وقال عروة بن الزبير: «ما رأيت أحدًا أعلم بالقرآن ولا بالحلال والحرام، ولا بالطب ولا بالشعر من عائشة»[4]. فكانت بحقّ عالمة نساء الأمة، ومفتيتها الأولى، ومصدرًا موثوقًا في السنة النبوية.

ولم تكن مروياتها مقصورة على الجانب التعبّدي أو الفقهي، بل شملت مختلف نواحي حياة النبي ﷺ؛ من عباداته وأقواله ومعاملاته، إلى دقائق سيرته داخل بيته ومع أصحابه. ولهذا قال الإمام الذهبي: «كانت السيدة عائشة من أوعية العلم، ومن كبار المفتين من الصحابة»[5]. وكان كبار التابعين يرجعون إليها في الفتوى والرواية، فيأخذ عنها العلماء والفقهاء، ويحتكمون إلى قولها في المسائل الدقيقة التي لا يعرفها سواها.

وقد كان لها منهجٌ دقيق في التثبت من الحديث، إذ كانت تردّ الروايات التي لا توافق ما علمته يقينًا من فعل النبي ﷺ، مما جعلها من أوائل من مارسوا النقد الحديثي بمعناه العلمي الرصين. ومواقفها في هذا الباب كثيرة، منها ردّها على بعض الروايات التي لم تثبت عندها بالسند أو المعنى، مما جعلها نموذجًا للتمحيص العلمي والوعي بالنص النبوي.

ومن عظيم فضلها أن روايتها لم تكن مجرد نقلٍ للنص، بل كانت تحمل تفسيره وتطبيقه، إذ كانت تبيّن مقاصد الأحاديث وتربطها بالسلوك النبوي، فجمعت بين الرواية والرعاية، وبين النقل والفهم، وهو ما جعلها أحد أعمدة السنة النبوية ومصدراً رئيساً من مصادرها.

وخُتمت حياة السيدة عائشة رضي الله عنها وهي مشغولة بالعلم والتعليم، إذ ظلت تروي وتفتي إلى آخر حياتها، فكانت مدرسة قائمة بذاتها، تخرّج منها العلماء والرواة، حتى قال مسروق: «رأيتُ مشيخة أصحاب النبي ﷺ يسألونها عن الفرائض»[6]. فجزاها الله عن الأمة خير الجزاء، وجعل ما نقلته من سنة نبيه ﷺ في ميزان حسناتها.

________________________________________

الهامش:

البخاري، الصحيح، باب فضل عائشة رضي الله عنها.
أحمد بن حنبل، المسند، رقم (24000 وما بعدها).
الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج2، ص135.
ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج8، ص59.
الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج1، ص35.
ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص1888.