الرد على المشككين في عدالة الصحابة رضي الله عنهم بقصة الوليد بن عقبة
يحتج المعترضون بقصة الوليد بن عقبة ونزول آية التحذير من خبر الفاسق للتشكيك في عدالة الصحابة رضي الله عنهم.
والجواب:
أنّ الوليد بن عقبة فهو صحابي ، بلا خلاف بين أهل العلم ، وهو داخل في عموم الآيات والأحاديث التي تثني على الصحابة رضي الله عنهم وتحكم لهم بالعدالة .
وأما نزول الآية الكريمة فيه ، ووصفه بأنه “فاسق” : فلم يثبت ذلك ثبوتا بينا :
فمن أهل العلم من يقول بنزولها فيه كابن عبد البر في “الاستيعاب” (4/1553) ، وغيره .
ومنهم من ينفي ثبوت ذلك ، ومن هؤلاء الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب” (28/98) ، وابن عاشور في “التحرير والتنوير” (26/269) ، ومحب الدين الخطيب في تعليقه على ” العواصم من القواصم” لابن العربي (ص102) ، خاصة وأن الآثار الواردة في ذلك لا تخلو من مقال من ناحية الإسناد ، وابن كثير رحمه الله ذكر الأثر في سبب نزول الآية في تفسيره (7/370) ، ولم يعلق عليه بشيء ، غير أنه ذكره في “البداية والنهاية” (11/604) وعلق عليه بقوله : “ذكر ذلك غير واحد من المفسرين ، والله أعلم بصحة ذلك ” انتهى .
وفي هذا إشارة إلى أن مثل ذلك الأثر مما لم تعلم صحته ، ولم تشتهر لدى أهل العلم .
والشيخ أحمد شاكر رحمه الله حذف هذا الأثر في اختصاره لتفسير ابن كثير (3/355) ، وفي هذا إشارة منه إلى ضعفه وعدم صحته ، فإنه ذكر في المقدمة (1/11) أنه “حذف كل حديث ضعيف أو معلول” انتهى .
وأما نفس القصة المروية: فليس فيها عند التأمل ما يقتضي وصف الوليد بالفسق !!
وبيان ذلك : أن في الأثر : أنه خرج له بنو المصطلق يتلقونه ، فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فخاف ، ورجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وليس في ذلك ما يقتضي وصفه بالفسق ، وإن كان قد أخطأ في ظنه ذلك ، غير أنه لم يتعمد الكذب .
قال الرازي في تفسيره (14/271) :
“ويتأكد بما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد ، لأنه توهم وظن ، فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقًا” انتهى .
ولو افترضنا أن الآية الكريمة نزلت فيه ، وأنه استحق هذا الوصف – وهذا غير مُسَلَّم كما سبق – فيجاب عنه بأنه قد تاب من ذلك ، وحسنت توبته ، كما هو شأن من وقع في شيء من المعاصي من الصحابة رضي الله عنهم ، كما تاب ماعز والغامدية وحسنت توبتهما ، وكما تابت المرأة المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها ، وحسنت توبتها ، وكما تاب أبو لبابة مما فعله مع بني قريظة وحسنت توبته ، وكما تاب كعب بن مالك وصاحباه من تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر وحسنت توبتهم .
فعلى فرض صحة ما قيل ، فيكون الوليد بن عقبة قد تاب من ذلك وحسنت توبته ، ولذلك استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صدقات بن تغلب ، وولاه عثمان بن عفان رضي الله عنه الكوفة . انظر : “البداية والنهاية” (11/604) .
فلم يكونا رضي الله عنهما يستعملانه ، إلا وهو عندهما قوي أمين عدل غير فاسق .
قال أبو بكر بن العربي رحمه الله في سياق حديثه عن عدالة الصحابة ، ونفي صفة الفسق عنهم : “وليست الذنوب مسقطةً للعدالة إذا وقعت منها التوبة” انتهى من “العواصم من القواصم” (ص 94).
وقال السخاوي في “فتح المغيث” (3/112) :” وأما الوليد وغيره ممن ذكر بما أشار إليه فقد كف النبي صلى الله عليه وسلم من لعن بعضهم بقوله : (لا تلعنه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) ، كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنهما قائلا له : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم ، والحدود كفارات ، بل قيل في الوليد بخصوصه : إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق ، وبالجملة فترك الخوض في هذا ونحوه متعين” انتهى .
والتوبة ترفع وصف الفسق عمن فعل ما هو أعظم مما نسب إلى الوليد بن عقبة.
قال الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه “منهج النقد عند المحدثين، نشأته وتاريخه” :
“ولكنه تعالى قال إلى جانب ذلك: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/4، 5.
ورغم أن العلماء اختلفوا في أن الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فلا ترفع التوبة إلا الفسق، ويبقى القاذف مردود الشهادة أبداً مهما تاب، أو يعود إلى الجملة الأخيرة وإلى التي قبلها، فترفع التوبة الفسق، ويعود هو مقبول الشهادة..
لكن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى قبول شهادة القاذف بعد ما يتوب، ويؤيد ذلك تصرفات المحدثين، حيث إنهم قبلوا رواية حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري شاعر رسول صلى الله عليه وسلم . وحمنة بنت جحش الأسدية أخت زينب أم المؤمنين” انتهى .
وحتى واقعة شرب الوليد للخمر ؛ فالثابت في الصحيحين عند البخاري (3696) ، ومسلم (1707) هو واقعة جلده بشهادة اثنين عليه ، أما كونه شرب أم لا فهذه قضية أخرى .
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن بعضا من أهل الكوفة قد افتروا عليه كذبا أنه شرب الخمر وشهدوا عليه زورا .
ومعلوم أن أهل الكوفة طعنوا حتى في سعد بن أبي وقاص حتى قالوا : لا يحسن الصلاة فكيف بالوليد ؟!
قال ابن خلدون في تاريخه “ديوان المبتدأ والخبر” (1/269) :” فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار ، وما زالت الشّناعات تنمو ، ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحدّه عثمان “انتهى .
وعلى هذا ؛ فذلك أيضا غير مقطوع به .
وعلى فرض ثبوت ذلك منه ، فالمقصود بالعدالة كما سبق قبول شهادة الصحابة وروايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث إنهم عندهم من الخوف من الله ما يمنعهم من تعمد الكذب .
والوليد بن عقبة لم يتعمد الكذب في شيء من الروايات ، بل ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا ، رواه الإمام أحمد في مسنده ، والإسناد إلى الوليد ضعيف لا يصح ، أي : يصح أن يقال : لم يرو الوليد عن النبي صلى الله عليه وسلم أي حديث ، وذلك كافٍ في الجزم بأنه لم يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو معنى العدالة كما سبق .
قال ابن عبد البر في “الاستيعاب” (4/1556) :” لم يرو الوليد بْن عُقْبَةَ سنة يحتاج فِيهَا إليه ” انتهى .
ونختم بهذا الكلام الجيد للعلامة المعلمي ، قال في “الأنوار الكاشفة” (ص 271) عن الوليد بن عقبة :
“هذا الرجل أشدّ ما يشنِّع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم لنرى كم حديثًا روى في فضل أخيه، ووليِّ نعمته ؛ عثمان؟ …
وكم حديثًا روى في فضل نفسه ليدافع ، ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟
هالنا أننا لا نجد له روايةً البتة، اللهم إلا أنه رُوِيَ عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له: أبو موسى عبد الله الهَمْداني عن الوليد بن عقبة قال: “لما فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم، فجيء بي إليه وأنا مطيَّب بالخَلُوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلَّقتني بالخَلُوق، فلم يمسني من أجل الخَلُوق” .
هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأنت إذا تفقَّدْتَ السند وجدتَه غير صحيح لجهالة الهَمْداني .
وإذا تأملت المتن لم تجده منكرًا ، ولا فيه ما يمكن أن يُتّهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس فإنه لم يذكر أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا له، وذكر أنه لم يمسح رأسه…
أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حِجْرٌ محجور؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “رده على الإخنائي” (ص 163) :
“فلا يعرف مِن الصحابة مَنْ كان يتعمَّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه”.
ثم قال المعلمي :
إن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكّك في عدالته من الصحابة اعتبار ما ثبت أنهم حدَّثوا به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن صحابيّ آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم، مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له” انتهى .
وبهذا يتبين أن ثبوت عدالة الصحابة أمر مقطوع به .
وأنه لا يطعن فيها ما نسب للوليد بن عقبة ، لأن في ثبوت ذلك شكا .
ولأن العدالة لا يشترط لها العصمة .
ولأن المقصود من العدالة عدم تعمدهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة كلهم كذلك ، حتى من وقع في بعض الذنوب منهم .
فرضي الله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعا ، ووفقنا لمحبتهم واتباعهم .
والله أعلم .