من شبهات الطاعنين في خالد بن الوليد رضي الله عنه (1): موقفه من قتال بني جذية.
من شبهات الطاعنين في خالد بن الوليد رضي الله عنه (1): موقفه من قتال بني جذية.
قال الحلي: (وسموا خالد بن الوليد سيف الله؛ عنادًا لأمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أحق بهذا الاسم حيث قتل بسيفه الكفار، وثبتت بواسطة جهاده قواعد الدين، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علي سيف الله وسهم الله»، وقال علي على المنبر: أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه، وخالد لم يزل عدوًّا لرسول الله مكذبًا له، وهو كان السبب في قتل المسلمين في يوم أحد، وفي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتل حمزة عمه، ولما تظاهر بالإسلام بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني جذيمة ليأخذ منهم الصدقات، فخانه وخالفه على أمره، وقتل المسلمين، فقام النبي في أصحابه بالإنكار عليهم… وقتل مالك بن نويرة صبرًا وهو مسلم، وعرَّس بامرأته)([1]).
الجواب عن هذه الشبهة:
ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم خالِدَ بنَ الوَلِيدِ إلى بَنِي جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أنْ يقولوا: أسْلَمْنا، فَقالوا: صَبَأْنا صَبَأْنا، فَجَعَلَ خالِدٌ يَقْتُلُ ويَأْسِرُ، ودَفَعَ إلى كُلِّ رَجُلٍ مِنّا أسِيرَهُ، فأمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنّا أنْ يَقْتُلَ أسِيرَهُ، فَقُلتُ: واللَّهِ لا أقْتُلُ أسِيرِي، ولا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِن أصْحابِي أسِيرَهُ، فَذَكَرْنا ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممّا صَنَعَ خالِدُ بنُ الوَلِيدِ» مَرَّتَيْنِ([2]).
وواضح من نص الحديث أن خالدًا أخذ لفظ (صبأنا) على ظاهره؛ لأن لفظ (صبأنا) معناه: خرجنا من دين إلى دين، ولم يصرحوا بدخولهم في الإسلام، فهم أخطؤوا في التعبير، وخالد مكلّف من نبي الله بأن يقاتلهم إن لم يكونوا مسلمين، وظاهر لفظهم هذا يدل على عدم إسلامهم وإن كانوا قصدوا الإسلام به، فلخالد رضي الله عنه مخرج في هذا، فخالد صاحب عقل راجح كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أسلفنا، فقد يكون رأى في قولهم هذا أنَفَةً وتكبرًا وعدم انقياد للدين([3]).
إذن يتّضح أن خالدًا رضي الله عنه لم يقتلهم مع تصريحهم بالإسلام، ولا قتلهم تشفّيًا لنفسه، فلم يحصل منهم ما يدل على أنهم مسلمون صراحة، ولهذا لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعزله، بل أقره على إمارته، ولم يلزمه دفع دية ولا كفارة.
وخالد ليس بدعًا في ذلك الخطأ، فقد سبقه إلى مثله أسامة بن زيد رضي الله عنه لما قتل الرجلَ الذي قال: لا إله إلا الله؛ لأنه كان مجتهدًا متأولًا، ظن أنه قالها هربًا من الموت، وقد أنكر النبي صنيعه إنكارًا عظيمًا حتى قال أسامة: تمنيتُ أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم([4]).
إن مثل هذه الأخطاء واردة في الأيام الأولى من تأسيس دولة الإسلام، ومثل هذه الأخطاء كانت أسبابًا لنزول آيات أو صدور أحاديث تبين وتصحّح الأمر، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94]، قال ابن جرير رحمه الله: “إن هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلته سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -بعدما قال: (إنيّ مسلم)، أو بعد ما شهد شهادة الحق، أو بعدما سلَّم عليهم- لغنيمةٍ كانت معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه”([4]).
فهذه الأحداث تكرّرت في الأيام الأولى للدعوة نتيجة اختلاط الحق بالباطل والمسلم بالكافر بسبب شبه كثيرة، فليس خالد بدعًا في ذلك.
والواقع أن من يعيب على خالد هذا الأمرَ إنما يعيب على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأن مقتضاه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن جرم كبير لم يعاقب خالدًا عليه، ولا حمَّله أيّ تبعة من تبعاته، ولا دية القتلى، أو حتى عزله عن قيادة الجند!
وبهذا يتّضح أن زعم الرافضة أن خالدًا خان الرسول صلى الله عليه وسلم وخالف أمره كذب على خالد وافتراء، فخالد لم يتعمد ذلك الفعل، ولا خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قتل من هو معصوم عنده، ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد، وكما أخطأت السرية التي قتلت مسلمًا ونزل فيها قرآن يتلى.
الهامش:
([1]) منهج الكرامة (ص: 79).
([2]) أخرجه البخاري (7189).
([3]) انظر: فتح الباري (7/ 654)، وأعلام الحديث (3/ 1765)، وعمدة القاري (15/ 139).
([4]) أخرجه البخاري (4269)، ومسلم (278).
([5]) جامع البيان (9/ 72).