كلام الإمام القاضي عياض في بيان مكانة الصحابة وتوقيرهم رضي الله عنهم
كلام الإمام القاضي عياض في بيان مكانة الصحابة وتوقيرهم رضي الله عنهم
قال رحمه الله تعالى في الشفاء: ومن توقيره – صلى الله عليه وسلم – وبره توقير أصحابه وبرهم ومعرفة حقهم، والاقتداء بهم وحسن الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم، ومعاداة من عاداهم، والإضراب عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم، وأن يلتمس لهم فيما نقل عنهم من مثل ذلك فيما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات والمحامل ويخرجه أصوب المخارج، إذ هم أهل ذلك، ولا يذكر أحدا منهم بسوء ولا يغمض عليه أمرا، بل يذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرهم ويسكت عما وراء ذلك، كما قال – صلى الله عليه وسلم – في حديث الطبراني عن ابن مسعود: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» وقال الله تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) وقال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (3) وقال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}
ثم ذكر رحمه الله تعالى أحاديث وآثارا كثيرة في فضلهم رضي الله عنهم. منها قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث الترمذي: “الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى الله تعالى ومن آذى الله تعالى يوشك أن يأخذه” وأذية الله تعالى عبارة عن فعل ما لا يرضاه، إذ معناه الحقيقي لا يتصور في حقه تعالى فهو مشاكلة، قاله الشهاب الخفاجي. ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث مسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث الديلمي وأبي نعيم: “من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا” الصرف: النفل، والعدل: الفرض. ومنها قوله – صلى الله عليه وسلم – في حديث البزار والديلمي عن جابر: “إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي منهم أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير”. قال الشهاب الخفاجي في شرح هذا الحديث: فكلهم علماء عدول كما في الحديث: “خير القرون قرني ثم وثم” وهذا سبب ما حكاه إمام الحرمين رحمه الله تعالى في الإجماع على عدالتهم كلهم صغيرهم وكبيرهم، فلا يجوز الانتقاد عليهم بما صدر عن بعضهم مما أدى إليه اجتهاده لما أوجب القطع بأنهم خير الناس بعد النبيين والمرسلين ولما اتصفوا به من الهجرة وترك الأهل والأوطان وبذل النفوس والأموال في نصرة الدين وقتل الآباء والأبناء والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين وغير ذلك من المنح الإلهية. اه.
ومنها حديث الطبراني عن خالد بن سعيد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما قدم من حجة الوداع إلى المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: “أيها الناس إني راض عن أبي بكر اعرفوا له ذلك. أيها الناس إني راض عن عمر وعن عثمان وعن علي وعن طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف فاعرفوا لهم ذلك، أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية، أيها الناس احفظوني في أصحابي وأصهاري وأختاني لا يطالبنكم أحد منهم بمظلمة فإنها مظلمة لا توهب في القيامة غدا”.
ومنها حديث أبي نعيم والديلمي عن أنس إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “احفظوني في أصحابي وأصهاري فإنه من حفظني فيهم حفظه الله في الدنيا والآخرة، ومن لم يحفظني فيهم تخلى الله عنه، ومن تخلى الله عنه يوشك أن يأخذه”. ومن الآثار قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: من أبغض الصحابة وسبهم فليس له في فيء المسلمين حق، قال في الشفاء: ونزع -أي استدل- بآية سورة الحشر وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}. انتهى كلام الشفاء.