موقف الصحابة رضي الله عنهم من المعارك بعد مقتل عثمان رضي الله عنه

موقف الصحابة من المعارك بعد مقتل عثمان رضي الله عنه
شهدت الأمة الإسلامية بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه اضطرابًا كبيرًا، وظهرت مواقف متعددة في كيفية التعامل مع الحدث ونتائجه. وقد انقسم الصحابة رضي الله عنهم في مواقفهم إلى ثلاث طوائف، وكل طائفة كان لها اجتهادها النابع من الحرص على مصلحة الأمة، لا من نزعة هوى أو عصبية.

الطائفة الأولى: المطالِبة بالتعجيل بقتل قتلة عثمان
وقد مثلها: طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم، ومعاوية بن أبي سفيان.
رأت هذه الطائفة أن القصاص لعثمان رضي الله عنه يجب أن يكون أولوية عاجلة، قبل النظر في أي شأن سياسي، لأن دماء الخليفة لا يجوز أن تُهدر دون محاسبة عادلة للقتلة.

الطائفة الثانية: المقدمِة لأمر الخلافة
ويمثلها: علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابة، حيث رأوا أن الأولوية يجب أن تكون لتثبيت الخلافة وتوحيد الكلمة، لأن الفوضى كانت مستحكمة بعد مقتل عثمان، ولا يمكن تنفيذ القصاص في ظل الانفلات الأمني وتعدد القوى المتصارعة.

الطائفة الثالثة: المعتزِلة للفتنة
وهذه الطائفة ضمت جمهور الصحابة، ومن أبرزهم:
سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، ومحمد بن مسلمة، والأحنف بن قيس، وأسامة بن زيد، وأبو بكرة الثقفي رضي الله عنهم.
هؤلاء الصحابة آثروا الاعتزال وعدم الدخول في القتال، لأنهم رأوا أن الأمور قد التبست، وأن الفتنة قائمة، والواجب في هذه الحال التوقف حتى يتبين الحق بوضوح.

دلائل على اجتهاد الصحابة واتفاقهم على الأصل
يُروى عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه أنه قال:
“لقيت طلحة والزبير بعد حصر عثمان، فقلت: ما تأمراني فإني أرى الأمر مشتبهًا؟ قالا: عليك بعلي.”
“ولقيت عائشة بعد قتل عثمان فقلت: ما تأمرينني؟ قالت: عليك بعلي.”2
وهذا يدل على أنهم لم يكن لهم اعتراض على خلافة علي رضي الله عنه، وإنما كان اجتهادهم في ترتيب الأولويات، لا في أصل مشروعية الخلافة.
وقد ثبت أن النبي ﷺ أخبر عليًا رضي الله عنه بما سيكون بينه وبين عائشة رضي الله عنها، فقال له:
“يا علي، إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، فارفق بها.”
فقال علي: “فأنا أشقاهم يا رسول الله؟”
قال: “لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها.”
وقد تحقق ذلك، حيث ردّها علي إلى المدينة مكرَّمة محفوظة كما أوصى النبي ﷺ.
إن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم لم يكن عن هوى أو رغبة في دنيا، بل كان اجتهادًا في فهم المصلحة في وقت فتنة والتباس، وكلهم مجتهد مأجور. وقد أثبتت المواقف أنهم كانوا أشد حرصًا على وحدة الأمة، وأن ما جرى بينهم لا يُنتقص به فضل أحد منهم، بل هم سادة الأمة وخير القرون، رضي الله عنهم وأرضاهم.

الهوامش:
قال ابن حجر: “الأمور كانت مشتبهة، والفتنة قائمة، ولذلك اعتزل كثير من الصحابة القتال”، فتح الباري (13/38).
تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج4، ص487.
رواه أحمد في المسند (6/393)، وقال الحافظ في فتح الباري (13/60): “سنده حسن”.